فن المقامات في الأدب العربي بديع الزمان الهمذاني نموذجاً بحث علمي




فن المقامات في الأدب العربي
بديع الزمان الهمذاني نموذجاً


شادي مجلي عيسى سكر


الملخّص //


شهد النثر العربي منذ أقدم العصور إلی يومنا هذا تقلبات کثيرة تجلت في مختلف الأساليب والفنون وخلف نتاجات أدبية قيمة، إلا أن من يتتبع نتاجات الأقدمين ومؤلفاتهم نظما ونثرا يری أنهم عنوا بالفنون الشعرية المختلفة عناية خاصة في نتاجاتهم التي تتناول التراث الشعري بين الشرح تارة والنقد تارة أخری. وخير دليل علی هذا الرأي هوالکتب المصنفة في مجال الشعر تحت العناوين المختلفة کـ" نقد الشعر"
وصلت الحياة الفكرية في العصر العباسي إلى ذروة التطور والازدهار، ولاسيما في العلوم والآداب.. وقد عرف العصر حركات ثقافية مهمة وتيارات فكرية بفضل التدخل بين الأمم.. وكان لنقل التراث اليوناني والفارسي والهندي، وتشجيع الخلفاء والأمراء والولاة، وإقبال العرب على الثقافات المتنوعة، أبعد الأثر في جعل الزمن العباسي عصراً ذهبياً في الحياة الفكرية.. ونحاول فيما يأتي التعرف إلى الإنتاج الأدبي، شعره نثره، على اختلاف فنونه، وما لحقه من خصائص وتطورات. في العصر العباسي كانت العربية قد أصبحت اللغة الرسمية في البلدان الخاضعة لسيطرة المسلمين، وكانت لغة العلم والأدب والفلسفة والدين لدى جميع الشعوب. وقد كتب النتاج بمجمله في اللغة العربية مع أن قسماً كبيراً من أصحابه ليسوا من العرب!!
 وقد غلب الطابع العربي على الأعاجم الذين نظموا وكتبوا بالعربية، فتأثروا بالاتجاهات الأدبية العربية وانحصر تجديدهم ضمن القوالب التقليدية فالعصر العباسي حمل الأدب كثيراً من التجديد، ولكن ضمن الأطر التقليدية.


المقدمة //

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين....... وبعد
فهذا بحث في نشأة فن المقامة في القرن الرابع الهجري، وهو متضمن على أشهر رواد المقامة والخصائص الفنية لهذا الفن الذي شغل الكثير من النقاد العرب.
واختص هذا البحث في بعض مقامات بديع الزمان الهمذاني ومقامات الحريري التي إشتهرت في القرن الرابع الهجري وبيان مفهوم المقامة .
وقد جعلت هذا البحث في بابين:
الباب الأول: مفهوم ونشأة المقامات
الباب الثاني: مقامات بديع الزمان الهمذاني

مع تحيات مدونة تحفة القصر في الأدب العربي ونتمنى ان تستفيدو من البحث والدعاء لكاتب البحث 



الفصل الأول: مفهوم ونشأة المقامات //


لم يكن العرب منذ أقد العصور إلا كغيرهم من الأمم يرددون الحكايات ويتمتعون في مجالسهم بسماعها ولا شك أن القصص تصور العادات والتقاليد والآراء والمعتقدات الذين يقصون تلك القصص أو الذين يحكونها ناهيك عما يعتريها من دقائق خاصة قلما توجد في باقي الأنواع الأدبية
ظهر في القرن الرابع الهجري نوع أدبي جديد يدعي المقامات لم يكن القول أن جوهرها تلك القصص أو الحكايات إلا أن مبدعيها تعمدوا التصنيع والتأنق بها وهذه المقامات تضم الحكايات والنوادر والمطيبات بينما لا تخلو من جوانب تاريخية وحكمية وأدبية.

وللمقامة عدة تعريفات نستعرضها:
المقامات لغة: هي المجلس، والمقامة في الأدب: هي قصة تدور حوادثها في مجلس واحد [1].
و تعرف المقامة بأنها القصة أو الحكاية وتعد من أقدم الأنواع الأدبية التي ربما سبقت الشعر وتحتل مكانا واسعا بين آداب الشعوب.

و يعرف القلقشندى المقامة: بأنها في الأصل اسم المجلس والجماعة من الناس وسميت الأحدوثة من الكلام مقامة، لأنها تذكر في مجلس واحد يجتمع فيها الجماعة من الناس لسماعها [2].
تعريف المقامة اصطلاحا: تدل كلمة مقامة واحدة المقامات في الاستعمال العربي القديم على موضع القيام فهي ( مَفْعَلة ) من القيام يقال مقال مقام ومقامة كمكان ومكانة وهما في الأصل اسمان لموضع القيام وتوسع العرب في استعمال كلمة مقامة حتى استعملت استعمال المكان والمجلس [3].
و تعد المقامات إحدى الفنون النثرية التي يبالغ فيها الاهتمام باللفظ والأناقة اللغوية وحمل الأسلوب بحيث تتعدى الشعر في احتوائها على المحسنات اللفظية إلا أنها لم تحظى باهتمام الأدباء والنقاد وهذا لا يعنى أنهم أهملوا هذا الفن كليا بل المقصود هو أن النثر بشكل عام والمقامات على وجه الخصوص نالا اقل اهتمام بالمقارنة إلى ما ناله الشعر العربي من علو في الشأن [4].

و فن المقامات فن اشتهر به الأدباء العرب قديما ولكن لم يبقى هذا الفن لزمن طويل ويعتبر هذا الفن موسيقى العرب الكلاسيكية ويقترن بالغوص في عالم المقامات الشرقية وفي سلالمها الساحرة من خلال لحظات موسيقية يستخرج فيها الفنان ثمار إبداعه ملتزما بالأداء الفردي مرتجلا ذروة انفعاله الشعوري والنغمي باحثا عن روح المقام مثيرا في وجدان المستمع نشوة الطرب.

عناصر المقامة الأدبية:
1- الراوي: ينقلها عن مجلس تحدث فيه.
2- مكدي ( البطل ): تدور القصة حوله وتنتهي بانتصاره في كل مرة.
3- العقدة ( نكتة ): تحاك حولها المقامة وقد تكون هذه العقدة بعيدة عن الأخلاق الكريمة وأحيانا تكون سمحة.
 وتبنى المقامة على الإغراق في الصناعة اللفظية خاصة والصناعة المعنوية عامة والمقامة الفنية أو البديعية، كما اجمع النقاد على تعريفها اقرب ما تكون لقصة قصيرة مسجوعة بطلها نموذج إنساني مكد ومتسول والمقامة راو وبطل وهي تقوم على حدث طريف مغزاه مفارقة أدبية أو مسألة دينية أو مغامرة مضحكة تحمل في داخلها لونا من ألوان النقد أو الثورة أو السخرية وضعت في إطار من الصنعة اللفظية والبلاغية [5]و بالرغم من التسول من أهم الموضوعات المقامة إلا أنها ليست الموضوع الرئيسي لها وأن كانت صنعة ملازمة للبطل فقد عالجت المقامة موضوعات شتى مثل النقد بأنواعه المختلفة الأدبي والمذهبي والاجتماعي وفيها التعليم اللغوي والأسلوبي والإرشاد والحيلة والأدب والألغاز [6].
و تنبع أهمية فن المقامة في مجال الأدب المقارن فقد قلدها بعض الكتاب الفرس كما يعتقد أنها أسهمت في ظهور روية المكديين التي ظهرت في اسبانيا في القرن السادس عشر الميلادي ثم شاعت في أوروبا لتصبح مقدمة لظهور الرواية النثرية.

لا اختلاف على نشأت المقامات الأدبية أنها مشرقية أما الذي لا اتفاق عليه فهو زمن هذه النشأة وصاحب الفضل فيها، فمهما يكن من شأن الاختلاف حول منشأ المقامات فإنه يدور حول ثلاثة أسماء كبيرة في تاريخ تراثنا الأدبي والفكري عاش أصحابها بين القرنيين الثالث والرابع الهجري وهم بديع الزمان الهمذاني وابن دريد وابن فارس [7].
كان بديع الزمان الهمذاني ( 357 – 398 ) هـ، وأبو القاسم الحريري ( 446 – 515 ) هـ من أبرز كتاب المقامات في العصر العباسي وتتناول السطور القادمة أهم السمات الأدبية لدى الأديبين:
لقد كان بديع الزمان أول من أطلق اسم المقامات على العمل الأدبي من إنشائه وقد لاقت مقاماته قبولا في نفوس معاصريه، وأظهر قول القلقلشندي [8]: ( واعلم أن أول من فتح باب عمل المقامات علامة الدهر وإمام الأدب البديع الهمذاني ).

1- بديع الزمان الهمذاني:
تتميز مقامات بديع بأنها قصيرة على الأغلب وفيها من الفصاحة والسهولة والوضوح إلى جانب الدعابة والمرح والتهكم وبديع الزمان حسن الابتكار قل أن تجد له مقامتين في معنى واحد وهو يجيد في مقاماته السرد والوصف الحسي والتحليل ويحسن دراسة الطبائع وتصوير المعائب وعرض مساوئ المجتمع غير انه لا يقصد إلى إصلاح هذه المساوئ ينصح أو يردع وإنما غايته التهكم بأصحابها واظراف الآخرين بتصويرها واستعراضها وهو كثير الاحتقار للناس [9].
و أسلوب بديع الزمان في مقاماته خاصة حلو الألفاظ سائغ التركيب جميل الوصف كثير الصناعة المعنوية ( الاستعارات والكنايات والتورايات الخاصة ) من غير تكلف ولا إغراق في السجع.
و المقامات الخمسين التي بدأ بديع الزمان كتابتها منذ عام 375 هـ راوٍ واحد هو عيسى بن هشام وبطل واحد هو أبو الفتح الاسكندري نسبة إلى الإسكندرية التي هي قرب الكوفة على الفرات وهما شخصيتان تاريخيتان، ومن أشهر مقاماته هما: المقامة المضرية والمقامة البشرية.
أما المقامة المضرية فتظهر فيها براعة البديع في الوصف ودقة التصوير على شيء كثير من السخرية وخفة الروح أما المقامة البشرية فهي وفق بها بديع الزمان الاختراع شاعر جاهلي تبناه التاريخ من بعده الا وهو بشر بن عوانة العبدي [10].

إن أول من قام بصياغة هذا النوع الأدبي هو بديع الزمان الهمذاني وهو مبدع المقامات [11]غير إن هناك تباين في الآراء بين النقاد والباحثين في اعتبار الهمذاني مبدع لهذا الفن الأصيل بحيث يعتقد جرجي زيدان إن بديع الزمان اقتبس أسلوب مقاماته من رسائل إمام اللغويين أبي الحسين احمد بن فارس ( 390 ) هـ [12].
بينما يعتبر الدكتور زكي مبارك مقامات الهمذاني مشتقة من أحاديث بن دريد ( 321 ) هـ ويرى بين مقامات الهمذاني وأحاديث بن دريد مشابهات قوية من حيث الحبكة القصصية واستخدام السجع به.
و ليس هناك أثر عن العرب مقامات سابقة على مقامات الهمذاني فهو من اجل ذلك يعتبر مبدع هذا الفن ولكن هناك من الأدباء كابن عبدربه وابن قتيبة والحصري يفضلون ان يقولوا إن بديع الزمان اشتق فن المقامات من فن قصصي سابق.
و يرى الدكتور زكي مبارك: أن يثبت أن مقامات بديع الزمان مشتقة من أحاديث ابن دريد وأن ابن دريد هذا كان راويا وعالما ولغويا وقد عنا برواية أحاديث من الأغراب وأهل الحضر [13].
و لا ريب في أن بين أحاديث ابن دريد وبين المقامات شبها قويا من حيث القصص واستخدام السجع ولكن هناك أيضا فروقا كبيرة في الصناعة وفي العقدة وفي وجود بطل المقامات وهو المكدي وفي بناء المقامة على الكدية وعلى الهزأ من عقول الجماعات مع إظهار المقدرة في فنون العلم والأدب آلة ما هنالك من خصائص يتميز يها فن المقامات.
فهذا لا يعني أن بديع الزمان لم يطلع على أحاديث ابن دريد أو على ما روي من قصص وأحاديث ولكن الفرق بين ما روي عن العرب من أحاديث وبين المقامات من حيث الغاية والأسلوب كبير جدا.
و على كل فإن بديع الزمان لم يكن مبدع فن المقامات فإن مقاماته أقدم ما وصل إلينا من هذا الفن الأدبي الرائع ثم تبعه عدد كبير من الكتاب القدامى والمحدثين فكتبوا في هذا الفن من أبرزهم الزمخشري وجلال الدين السيوطي عن المشارقة والسرقسطي من الاندلسي اما المحدثين فأهمهم اليازجي والمويلحي.
فالغرض من المقامة هو التعليم ولهذا سماها بديع الزمان مقامة وليست قصة أو حكاية أما بعض الباحثين يرى أنها نوع من القصص إلا أنها ليست قصة بالمعنى الكامل إلا أنها تشتمل على عناصر قصصية من حيث الحوار والمضمون والتصوير لعناصر الشر والفساد وبالإضافة إلى احتوائها على كلمات لغوية جعلت من المقامة تتجه نحو البلاغة اللفظية إذ أن القصة ليست الأساس وإنما الأساس هو العرض الخارجي والحلية اللفظية لذا فإن بعض الأدباء اخذوا يبتكرون صورا جديدة للتعبير ولكن في حدود وغالبا ما تتصف المقامة بالشحاذة والكدية.
و في الآداب العالمية نجد المقامة مثل مقامة القاضي حميد الدين أبو بكر البلخي باللغة الفارسية وفي أوروبا وجود قصص ممثلات لبعض القصص الاسبانية بطلا واحدا اسمه بيكارون وهو يشبه من بعض الوجود أبو الفتح الاسكندري عند بديع الزمان وأبو زيد السروجي عند الحريري [14].


2- أبو القاسم الحريري
يبدأ الحريري مقاماته بإسناد الكلام إلى روايتها الحرث بن همام ولكنه لا يقتصر كالبديع على قوله حدثنا بل يميل إلى التغيير في بدأ كل مقامه فينتقل بين حدث وروى وحكى وأخبر وقال وكان مكدي بطل مقاماته هو أبو زيد السروجي والحريري في مقاماته أكثر تعلقا بالحواضر من بديع الزمان فما يكاد يخرج إلى البادية إلا في واحدة منها أو اثنين ومقاماته في الغالب أطول من مقامات أستاذه بيد أن طولها لا يعود على اتساع الفن القصصي فيها وإنما على اجتماع خبرين في مقامة واحدة أو على فيض الألفاظ وكثرة المترادفات ومعاقبة الجمل على المعاني أو على الإكثار من الشعر وفيه القصائد التي يشرح بها أو يزيد أحواله ويقص إخباره وللحريري لغة متينة قصيرة الجمل يقطعها تقطيعا موسيقيا فما تتعدى جملته الكلمتين أو الثلاثة فلما زادت بلغت الخمس أو الست وهو في إنشائه بادئ الصنعة ظاهر التكلف يتعمد الغريب ويسرف في استعماله ويفرط في اصطناع المجاز والتزيين حتى تجف عبارته ويمل ماؤها ويعبر مساغها , ومن أراء العلماء أيضا:
يقول بروكلمان في تاريخ الأدب العربي: [15]( هذه المقامات آخر ما تفتق عنه العقل العربي، فهي شيء يبهر العيون ويسحر العقول لحظة كالألعاب النارية الجميلة، غير أنها عقيمة عديمة الجدوى كتلك الألعاب سواء بسواء ).
يقول نكلسن: حينما وصف مقامات الحريري قائلا: [16]( ولا يمكن للأوروبيين ألا يروا القليل من المزايا أو الذوق في الصور اللفظية كالتورية، والتقفية والجناس في أول الكلمة..... تلك التي رصعت بها صفحات ( المقامات ) ترصيعا كثيفا.... ولكن عدم اصطبارنا على مثل هذه الأشياء يجب ألا يعمى بصائرنا عن حقيقة أنها متصلة اتصالا وثيقا بعبقرية اللسان العربي وتقاليده ).



ومن أشهر مؤلفات الحريري:
صحيح أن الحريري اشتهر في عالم الأدب بمقامته ولكنه صاحب تأليف كثير منها:
-        درّة الغواص في أوهام الخواص
-        ملحة الأعراب في النحو
-        توشيح البيان
-        الرسالة السينية الفرق بين الضاد والظاء
-        صدور زمان الفتور وفتور زمان الصدور
-        الخمسون مقامة التي عملها في بضع سنين
و تأتي أهمية مقامات الحريري أن تلك المقامات تعد غرضا أخلاقيا حيث يصرح إن الجاهل والشرير ربما يلعنان الكتابة ولكن القراء الفطينين يدركون إذا ما وضعوا التحيز جانبا انه نافعا ومفيد كأساطير الحيوانات.
لقد تكاثرت الشروح لأرباب العقول وتسابقت الأدباء الفحول في بيان مقاصد المقامات فنذكر منهم: المطردي، العكبري، الشريشي، الطرائفي، الزبيدي، الطبلي، الناصري، الباجي ، الأنباري، الصقلي وعبداللطيف البغدادي، البيضاوي والرازي، خير الدنيا السياس المدني، السجماس، القزويني، الشافعي المراد آبادي.
حيث ترجمت المقامات لأهميتها الأدبية وصناعتها البلاغية ومواضيعها الإرشادية وقيمتها الفنية ترجمت المقامات إلى اللغات الحية في العالم منها الانجليزية واللاتينية والفارسية والتركية والعبرانية [17].
وتعد مقامات الحريري آية الفن والأدب وآية الإبداع والسحر في الكلام انه معجزة لعصره والعصور التالية وذلك ليس إلا انه تلميذ من تلامذة القران العظيم يجول في ربوعه حيث شاء يشرب من معينه ويأكل من ثمراته تجري الحكمة من لسانه فأثره باق ما بقي الدهر لم تندرس معالمه على مر الأعوام فهو آية في كل شيء آية في النبوغ والذكاء والفطنة أديب يصوغ الكلام ذهبا ويرصعه بالقران جوهرا بالأمثال والحكم.
إن السجع في المقامات يعطيها متعة بالقراءة وتبعد القارئ عن الملل واشتهر بهذا السجع في أيامنا الشيخ عائض القرني حفظه الله فلا تخلو محاضرة من محاضراته من مقامات أدبية قد تأثر في فن المقامات تأثرا كبيرا فيأت أسلوبا مميزا له في محاضراته وندواته وله كتاب كامل في فن المقامات سماه المقامات شمل كثير من المواضيع الإيمانية والدعوية والعقائدية والعملية في صورة مقامات جميلة وبليغة فكان عمل أدبي بصيغة إسلامية مميزة.




الفصل الثاني

مقامات بديع الزمان الهمذاني


تدور مقامات "الهمذاني" في معظمها حول موضوع الكُدية أي الاستعطاء، كمعنى أول، والتلطف في سؤال الناس من خلال خطاي لغوي مثير كمعنى ثانِ.
إن هذا الموضوع - بما إنه ليس بطولياً ولا نخبوياً - يعني النزول إلى الشوارع واكتشاف المفارقة بين المستويات والطبقات.
المستعطي كونه في أسفل السلم الاجتماعي هو الأقدر على رؤية مجتمعه واكتشاف ضعفه ونفاقه.
وهكذا فإن البطل الرئيس في مقامات "بديع الزمان" الذي اتخذ الكُدية وسيلة لكسب المال مضطر أن يدخل من فجوات العيوب التي يتميز بها المجتمع الطبقي المتمايز الذي عاش فيه " الهمذاني " نفسه.
ولهذا، فإنني أعتقد أن موضوع الكُدية كموضوع رئيس لهذه المقامات يصبح وسيلة لا هدفاً، وسيلة للكشف والغوص والتعرف والفهم، ومن ثم النقد والتوجيه وحتى السخرية – وهي ليست فكاهة كما يشير كثير من المباحث -.

إلا أن هذه الوسيلة – أقصد الكُدية – استأثرت باهتمام " بديع الزمان "، فتحدث عن طرقها وعن التفنن في كسب المال، فكانت كالآتي:
·       عن طريق البراعة اللغوية، كما في المقامتين الأزاذية والأذربيجانية.
·       عن طريق الزيارة ليلاً لأن الناس أكثر كرماً في الليل، كما في المقامة الكوفية.
·       عن طريق ادعاء العمى، كما في المقامة المكفوفية.
·       عن طريق ادعاء بعض المهن، كما في المقامة القِردية.
·       أساليب مختلفة ومتنوعة، كادعاء الفقر وتبدل الحال، كما في المقامة الساسانية.
وتقدم لنا مقامات " الهمذاني " صورة حية عن مجتمعها الذي نبتت فيه، فكان خير معبر عن ذلك العصر الذي اضطربت فيه الأخلاق والسلوك والدول والأفراد والجماعات، إذ تقدم هذه المقامات صورة بانورامية لمجتمع فيه كل المتناقضات كما يلي:
·       مقاطع من حياة المجون والسكر والعربدة، كما في المقلمة الخمرية.
·       صورة لمحدثي النعمة، والانتهازيين، كما في المقامة المضيرية.
·       صورة شاملة ومرعبة لفساد القضاء والقضاة، كما في المقامة النيسابورية.

إلا أن " الهمذاني " يخرج من هذه المواضيع كلها ليدخل في مواضيع أخرى كانت بالنسبة إليه مهمة، فرضتها ظروف حياته، من جهة، وظروف كونه كاتباً ومثقفاً ومناظراً وعالماً، من جهة أخرى، لهذا كانت هناك موضوعات أخرى فرضت نفسها في تلك المقامات كانت على النحو التالي:

1- المديح:
إذ إن " الهمذاني " ولأسباب حياتية – بما عرف عنه من تنقل وترحال بين الدول – كتب ست مقامات في مديح " خلف بن أحمد "، والي سجستان التي أمضى فيها حوال سنتين من عمره، وفي هذه المقامات الست بالغ وأطنب في ذكر محاسن هذا الرجل، ففي المقامة الملوكية، يتجاوز " الهمذاني " كل الملوك السابقين ليصل إلى القول عنه: " الذهب أيسر ما يهب، والألِفُ لا يعمه إلا الخَلْف، وهذا جبل الكحل قد أضر به الميل، فكيف لا يُؤثِّر ذلك العطاء الجزيل... "[18]، وتعلق الدكتورة " أحلام الزعيم " على هذا القول بأن النثر في القرن الرابع الهجري صار يزاحم الشعر في كيل المديح ونظمه، وأن ذلك آذن " بانهدام الحواجز بين الشعر والنثر " [19].




2- اجتراح النقد:
ففي أربع مقامات هي: " الشِّعرية " و" العراقية " و" القريضية " و" الجاحظية " يتحول " الهمذاني " إلى ناقد أدبي يوزع أحكامه ويطلق سهامه على الشعراء والكتّاب على حد سواء، وقد أثبت في ذلك أنه صاحب ذائقة رفيعة، فقد أطلق أحكاماًُ بدت نهائية غير قابلة للنقاش على " امرئ القيس "، و" الفرزدق "، و" الأخطل "، وغيرهم، وكذلك كان يسأل أسئلة مفاجئة يجيب عنها إجابات ذكية ولمّاحة أيضاً [20].
وفي المقامة الجاحظية، نرى " الهمذاني " ينتقد الجاحظ لخلو نثره من السجع ولعدم قوله الشعر، وهو نقد متسرع وفيه تجنٍّ.

3- الوعظ والدعوة إلى الزهد:
وقد ورد هذا في مقامتين هما: الوعظية والأهوازية، وفيهما دعوة إلى التأمل والتزهد والتقشف والاستعداد لليوم الآخر.

4- تحقير مذاهب بعينها:
ففي المقامة المارستانية يحقر " الهمذاني " مذهب المعتزلة، ويعتبر أتباعَ هذا المذهب مجوس هذه الأمة.

5- مواضيع متنوعة كانت كالآتي:
- التخيل: كما في المقامة الإبليسية، إذ يظهر إبليس ل " أبي الفتح الإسكندري "، ويعتقد الدكتور " شوقي ضيف " أن هذه المقامة هي التي أوحت لأدباء آخرين جاؤوا بعد " الهمذاني " بإنشاء روائع تنحو هذا المنحى [21].
- الشبقية: كما في المقامتين الشامية والرُّصافية، وفيهما تظهر ميول شبقية ومظاهر جنسية كانت معهودة في العصر.
- الوصف المجرد: وهذا كان من أهداف مقامات " بديع الزمان " لتظهر من خلاله قوة الكاتب في الرصف والمعمار، من جهة، وجمع الكلمات ومرادفاتها، من جهة أخرى، كما في المقامة الحَمْدانية.
ويرى الدكتور " وهيب طنوس " أن الوصف من الفنون المقصودة في مقامات " البديع "، وهذا ما نلاحظه في ( الأَسَدية )، والقصة هنا في جملتها فكاهة، لكن الوصف ظاهر فيها وبيِّن، وفيها فقرات وصف رائعة، والحركة فيها قوية، والمناظر تتوارد في حياة وانسجام، أما غرضها ففيه تفاهة، فكأن " بديع الزمان " لا يقصد غير هذه الأوصاف. أما ( المقامة الخمرية) فقد وضعت قصداً لوصف الصهباء [22].
- الحض على العلم والتعليم، كما في المقامة العِلْمية: الشخصية الرئيسية في مقامات " الهمذاني " هي " أبو الفتح الأسكندري " التي عرفها الدكتور " يوسف عوض " بأنها " شخصية فنية استجمع مؤلفها أبعادها من واقع بيئته، وعلى وجه التحديد استخراجها من بين المتسولين والمُكْدين، وقد أضفى عليها عناصر فنية أخرى، حتى جعل منها نموذجاً لهذا النوع من المتسولين في بيئته " [23]، هذه الشخصية لم تظهر في المقامة البغدادية والنهيدية والتميمية والبِشْرية والمِغْزَلية والغَيْلانية، كما أن هناك مقامات لم يكْدُ فيها " أبو الفتح "، وهي: الوعظية والمضيرية والرُّصافية والشيرازية والنيسابورية والأهوازية والملوكية والخمرية والمارستانية والعِلْمية والحُلْوانية والمجاعية والخَلَفِية والبصرية والوصية والسارية. لكن " بديع الزمان "، وعلى رغم ذلك، لم يتخلَّ عن استعمال الحيلة فيها أيضاً.

نقدم فيما يلي تحليلاً لنماذج عدة من الألوان البديعية والبيانية التي تسود مقامات " الهمذاني " وتطل علينا من كل سطر أو عبارة، لكننا لم نقدم دراسة إحصائية استقرائية، خصوصاً أن هذه الألوان قد تتداخل بصورة تؤدي إلى التعقيد، ومن الصعب الفصل بينها، لأن ذلك يفسد معناها وجوهرها، ومثل ذلك قول " البديع " في المقامة البخارية: " طلع إلينا ذو طِمْرَين، قد أرسل صِواناً، واستثلى طفلاً عُرياناً، يضيق بالضُّرّ وُسْعُه، ويأخذه القُرُّ ويدعه، لا يملك غبر القشرة بُردة، ولا يكتفي لحماية رعدة " [24].
ففي عبارة " يضيق بالضر وسعه "، أي طاقته تضيق عن احتمال ما به من الضر، نجد الكناية، والاستعارة في آن واحد، وفي عبارة " يأخذه القر ويدعه " طباق واضح، وفي الوقت نفسه صورة من صور الكناية، وفي عبارة " لا يملك غير القشرة بُردة ولا يكتفي لحماية رعدة " جناس بين بردة ورعدة، وفيها أيضاً كناية عن الفقر والحاجة، كما نجد السجع، والازدواج. وهكذا تتداخل الألوان البديعية والبيانية بصورة مكثفة، ويحتاج فرزها إلى عشرات الصفحات بل المئات.
وفي هذا المبحث نحدق بنص المقامات، ونُقلِّب الجمل والمفردات لفحص أين ذهب " الهمذاني " إلى فطرته ووجدانه وكان صاحب صنعة مجيداً، وأين لوي عنق الكلام ليتصنع ويتكلف.
وتجدر الإشارة إلى أن الدراسات السابقة عن مقامات " بديع الزمان " وقفت عند الجانب الخارجي للمقامة، دون الغوص إلى أعماقها، فيما لم تقف أي دراسة وقفة متأنية عند الصنعة والتصنع في مقاماته ذاتها.



1: المقامة الأزادية ( الأزاذية ): نسبة إلى موضوع المقامة، وهو الحديث عن تمر الأزاذ


العبارات المختارة
التحليل البديعي والبياني
كنتُ ببغداد وقت الأزاذ، فخرجتُ أعتامُ من أنواعه، لابتياعه.
قصد ببغداد مدينة بغداد، وقصد بالأزاذ نوعاً من التمر.
والتكلف واضح لأنه اختار الاسم الأقل شهرة لمدينة بغداد ليحقق السجع.
أما في العبارة الثانية، فكلمة أعتام فعل مضارع بمعنى أختار، وهي لفظة غريبة جاءت لتُظهر براعة " الهمذاني " اللغوية، وذلك على حساب المعنى.
أخذ أصنافَ الفواكه وصَنّفَها، وجمع أنواع الُّرطبِ وصَفّفها.
يتكلف " الهمذاني " في هاتين العبارتين، إذ جمع بين المزاوجة، والسجع والجناس.
جَمَعتُ حواشي الإزار على تلك الأوزار.
الإزار: الملحفة. والحواشي: الأطراف. والأوزار: الأحمال.
العبارة متكلفة وفيها جناس غير تام فظ بين الإزار والأوزار.
وَيْلي على كَفَّيْن من سَوِيق أو شحمةٍ تُضرَب بالدقيق أو قَصْعَةٍ تُملأ من خِرْديق يَفثأُ عنا سَطْواتِ الريق
استخدام هذه الألفاظ: سويق، دقيق، خرديق، الريق، يؤكد التصنع والتكلف والانحراف عن المعنى إلى إظهار المهارة اللغوية، ما يستدعي استخدام المعجم للوقوف على المعنى.
يَهدي إلينا قَدَمَ التوفيق
 يُنقِذُ عَيْشي من يَدِ التََّرنيق
المعنى الذي أراده أن ذلك الفتى – الذي يتحدث عنه – أنقذ عيشه من الكدر.
" يد الترنيق " استعارة مكنية، والترنيق: التكدير وضعف الأمر.
وبين التوفيق والترنيق سجع جناس غير تام. وفي هذه العبارة صورة ملفقة لمعنى بسيط.
يا مَن عَناني بِجَميلِ بِرَّه
 أفْضِ إلى اللهِ بِحُسنِ سِرِّه
هنا جناس غير تام بين برّه وسرّه جاء بسيطاً عفوياً سهلاً.


2: المقامة الصُّفْرِيّة: نسبة إلى لون الدينار الأصفر، لأن موضوع المقامة يدور حوله

العبارات المختارة
التحليل البديعي والبياني
رَجَلٌ من نِجارِ الصُّفرِ يدعو إلى الكفر
أي أن لديه ديناراً فهو يقصد بالرجل الدينار الأصفر، وهو معنى بسيط، إلا أن " الهمذاني " تكلف في التعبير عنه.
وقد أدَّبتْه الغُربة
يريد أن هذا الدينار في غير أهله، فهو غريب عند ذلك الفتى بمنزلة البعيد عن أوطانه الذي أدبته الغربة، وعلمته الحاجات فيها كيف يحسن معاملة الناس. وقوله " أدبته الغربة " صورة من صور البيان فهي استعارة مكنية إذ جعل الغربة مؤدِّباً، لكنها متكلفة لأنها تجعل الغربة تؤدب الدينار.
فإن أجَبْتَ يَنْجُبُ منهما ولدٌ يعمُّ البِقاع والأسماع
هناك جناس بين أجبتَ ويُنجب. والواقع أنه يقصد أنه يملك ديناراً ويريد أن يضم إليه ديناراً آخر، فإذا تحقق ذلك أنجب هذا الضم الحدم والثناء، وهو معنى بسيط تكلف الكاتب في التعبير عنه.
فإذا طويتَ هذا الرَّيْطَ، وثَنَيْتَ هذا الخيط، يكون قد سبقك إلى بلدك
الريط جمع ريطة وهي الملاءة أو الثوب اللين الرقيق، وثنيت الخيط يقصد الزمان، أي تعاقب مرور الأيام.
والمعنى فإذا طويت ليالي الغربة هذه ورجعت إلى بلدك تجد أن المدح والثناء سبقاك إليه.
والتكلف واضح هنا، لأن هذا الذي أتعب فيه " بديع الزمان " نفسه يمكن صياغته في جملة بسيطة فتقول:
إذا تصدقت فإن مدحك يكون على كل لسان.
المَجدُ يُخدَع باليد السفلى،ويدُ الكريم ورأيُه أعلى
هناك طباق بين السفلى وأعلى، وقوله " المجد يُخدع " فيه استعارة مكنية، والعبارة كلها كناية عن أن المجد يتحقق بالكرم.

3: المقامة القِرْدية: سميت بهذا الاسم إلى امتهان " أبي الفتح الإسكندري " مهنة القرادة


العبارات المختارة
التحليل البديعي والبياني
أميس مَيْس الرِّجْلَة، على شاطئ الدجلة.
الميس: التبختر، ويقصد الكاتب هنا أنه كان يتبختر كما يتبختر الرجال على شاطئ دجلة، والتكلف واضح في الرجلة - وهي جمع رجل - ودجلة، فهنا جناس وسجع بأي ثمن. ولا يمكن أن يكوم قصد بكلمة الرِّجلة المرأة النؤوم، لأنه لا يمكن أن يشبه تبختره بتبخترها، ففي ذلك إنقاص لرجولته.
إذ انتهيتُ إلى حلقة رجالٍ مُزدَحِمين يلوي الطرَبُ أعناقَهم، ويشُقُّ الضَّحِكُ أشداقهم، فساقني الحرصُ إلى ما ساقهم، حتى وقفتُ بمَسْمَع صوت رجل دون مرأى وجهه لِشدِّةِ الهجمةِ وَفرْط الزحمة.
في قوله " يلوي الطرب أعناقهم " صورة بيانية، فالطرب كالإنسان الذي يلوي الأعناق، وهنا استعارة مكنية، وكناية عن شدة الطرب، ثم تلا ذلك بصورة بيانية أخرى، فالضحك قادر على أن يعمل ويشق، وجمال الصورة البيانية الأولى لا يعني عدم التكلف في الصورة الثانية.
وقوله: " فساقني الحرص إلى ماساقهم " أي اندفعتُ مثلهم لأشاهد المنظر وما يقدوم به القَرّاد، وهي صورة بيانية، فالحرص لا يسوق، وإنما جعله كذلك على سبيل الاستعارة المكنية. وهنا سجع ولزوم ما لا يلزم بين أعناقهم وأشداقهم وساقهم.
وفي الجملة الأخيرة يقصد أنه لم يرَ القَرّاد بسبب شدة الزحام، وقد لجأ " الهمذاني " إلى لفظتي الهجمة والزحمة ليحقق السجع، ولزوم ما لا يلزم.
فرقصتُ رَقْصَ المُحَرَّج وسرتُ سير الأعرج.
هنا صورة بيانية أساسها التشبيه، فهو يثب هنا وهناك كالكلب المُحَرَّج – أي الكلب المقلّد بالحِرج أي الودع -، وهي صورة بديعة لرجل يحاول أن يطل على المشهد من خلال الزحام.
يلفظِني عاتقُ هذا لِسُرّة ذاك.
المقصود أن عاتق أحدهم يرميه أو يرجعه إلى سُرّة الثاني؛ أي بطنه، و" يلفظني " صورة بيانية جميلة، لكن نسبتها إلى العاتق والسرة تبدو متكلفة.
حتى افترشْتُ لِحية رجلين، وقَعَدْتُ بعد الأَيْن.
المقصود جلس بين رجلين كان نصفه مجلسه على وجه أحدهما ونصفه الثاني على وجه الآخر وقد افترش لحيتيهما، وهنا مبالغة في تصوير شدة الزحام. واستخدام كلمة الأين – أي الإعياء من التعب – متكلف، وجاء فقط لتحقيق السجع ولزوم ما لا يلزم
وقد كساني الدّهَشُ حُلَّتَه.
الدهش: الذهول، وحُلّة الدهش: ما يظهر على الوجه وسائر الأعضاء من علاماته وآثاره. وهي صورة بيانية، فهي استعارة مكنية، وأيضاً كناية عن الدهشة.
بالحُمْقِ أدركتُ المُنى، ورَفَلْتُ في حُلَلِ الجَمال.
المقصود أنه بالتحامُق كسب المال فاكتسى به أفخر الثياب وهي مجبلة الجمال. وهنا صورة بيانية مصدرها الكناية، غير أنها كناية مبتذلة.


4: المقامة المَجاعيَّة: واسمها هذا نسبة إلى ما ذُكر فيها عن الجوع والمجاعة ووصف أنواع الأكل ومجالسه وما يجري فيها


العبارات المختارة
التحليل البديعي والبياني
كنتُ ببغدادَ عامَ مجاعةٍ، فمِلْتُ إلى جماعة.
جناس غير تام بين مجاعة وجماعة، وهو جناس مقحم متكلف.
فد ضَمَّهُم سِمْطُ الثُّريا، أطلُبُ منهم شَيّا.
عبارة " قد ضمهم سمط الثريا " صورة بيانية جميلة، فالأصدقاء متآلفون مثل كواكب الثريا المنظومة، ولكن التكلف في كلمة شيّا واضح، فهي كلمة مقحمة جاءت فقط لتحقيق السجع.
قلتُ: حالان لا يُفلح صاحبهما: فقيرٌ كَدَّه الجوع، وغريبٌ لا يمكنه الرجوع. فقال الغلام: أيَّ الثَّلْمَتَيْنِ تُقَدِّم سَدَّها.
عمد إلى المجانسة بين الجوع والرجوع، وهنا عفوية ودقة في تصوير المعنى. أما قوله " أيَّ الثُّلْمَتَيْنِ تُقَدِّم سَدَّها " فيقصد أن الجوع وكرب الغربة بلا رجوع ثُلْمَتان عظيمتان، والثُّلْمة هي الفرجة في المهدوم من أثر الهدم، وبالنسبة للسيف كسر حده. وهنا تصوير بياني، إذ جعل الجوع والغربة ثُلمتين في راحة المصاب بهما وفي قوته، فكأنه يشبه الراحة بسياج وهما يخرقانه، أو يشبه القوة بسيف وهما يثلمانه.
فما تقول في رغيفٍ، على خِوانٍ نظيف، وبَقْلِ قَطيفٍ إلى خَلٍّ ثَقيفٍ، ولَوْنٍ لطيفٍ، إلى خَرْدَلٍ حِرّيفٍ، وشِواءٍ صفيفِ، إلى مِلْحِ خَفيف.
هنا إصرار متكلف على استخدام فاصلة حرف الفاء لتحقيق السجع والازدواج بكل ثمن، بقصد إظهار البراعة اللغوية التي تسوق الكاتب إلى التكلف.
ثم يَعُلُّكَ بعد ذلك بأقداحٍ ذهبية، من راحِ عِنَبية.
أي: يسقيك قدحاً بعد قدح من النبيذ. ونسب الأقداح إلى الذهب لأنها تكون بلونة إذا وُضع فيها نوع من نبيذ العنب، وأعتقد أنه لا يقصد أن الأقداح مُذهّبة، وإنما شبه الخمر بالذهب المذاب، وهو تشبيه مطروق ومعروف.
ومُطربٌ مَجيدٌ، له من الغَزَال عينٌ وجيدٌ.
صورة بيانية مصدرها التشبيه البليغ، وهنا سجع وجناس غير تام في " مجيد " و" جيد "، وهنا تظهر الصنعة جلية.
فما قولُك في لَحمٍ طَرِيٍّ، وسَمَك نَهْرِيٍّ،وباذنجانٍ مقْليٍّ، وراحٍ قُطْرُبُّلِيٍّ، وتُفّاحٍ جَنِيٍّ، ومضجعٍ وطيٍّ، على مكان عليٍّ، حذاءَ نهرِ جَرّارِ وحوْضِ ثَرثار.
قطربل يُستجاد خمرها. ومضجع وطيّ: أي لين هانئ, والسجع في العبارة كلها يأتي في محله من دون إضرارٍ بالمعنى الذي يُبنى جملةً جملةً بل نتوءات.
وفي قوله " وحوض ثرثار " استعارة مكنية، إذ جعل الحوض يثرثر لأنه تصدر عنه أصوات متواصلة، فشبه الحوض بالإنسان، وحذف المشبه به أتى بخاصية من خصائصه، فهذه صورة بيانية جاءت في صياغة بديعية حيث السجع بين جرار وثرثار، وهنا تبرز صنعة " الهمذاني ".
أنا عبدُ الثَّلاثة، وأنا خادمها.
ويقصد ب " الثلاثة ": أكل الغذاء الأول، ثم حضور المجلس الثاني، ثم إذا هضم الأكل الأول عاد إلى المجلس الثالث ثم نام. وهنا كناية عن حبه الشديد لهذه الثلاثة. وفي العبارة الثانية كناية، أيضاً، وهي تشكل تجسيداً للمعنى السابق.
لا حياك الله أحييْتَ شهواتٍ كان اليأسُ أماتها، ثم قبضتَ لَهاتها.
أحييت شهوات صورة بيانية مصدرها الاستعارة المكنية، فهو يذكر الشهوات الماضية التي أماتها اليأس، وجعل الشهوات تحيا وتموت، وهنا أيضاً سجع بين أماتها ولهاتها.
وفي قوله: " أماتها اليأس " استعارة مكنية، أيضاً، إذ جعل اليأس قادراً على الإماتة.
أما قوله: " ثم قبضتَ لهاتَها " فكناية عن عدم تحقق هذه الشهوات، وهي كناية بالغة الغرابة، فقد جعل الشهوة الحية تفتح اللهاة، وهي تظهر عندما يُفتح الحلق، وعندما تموت الشهوة يُغلق الفم ولا تعود اللهاة تظهر، فكأنها قُبضت أو ماتت.
أنا من ذوي الإسكندريةْ من نَبْعَةٍ فيهم زكية
النبعة: أجود أنواع شجرٍ تُتخَذُ منه القِسِيّ، والعبارة كناية عن أنه من أصل طيب.
فركِبْتُ من سَخَفي مَطِيّة.
جعل سخفه مطيةً ركبها لتحقيق أهدافه، والصورة فريدة من نوعها، ذلك أن الزمان السخيف يحتاج إلى رجل سخيف لينال مقاصده.

5: المقامة المِغْزَلِيّة: وموضوعها وصف المغزل والمشط


العبارات المختارة
التحليل البديعي والبياني
دخلتُ البصرة وأنا مُتَّسِعُ الصيِّت، كثيُر الذِّكر.
كناية عن الشهرة، وهي الصورة عفوية لا تكلف فيها.
فأخذ قَبَجَ سُنّارٍ، برأسه دُوَارٌ، بوسطه زُنّارٌ وفلكٌ دَوّارٌ، رخيمُ الصوتِ إن صَرَّ، سريعُ الكرِّ إن فرّ.
يصف مِغْزَلاً، فحين يكون مُكتسياً بالغَزْل يشبه أعلاه أعلى الهر، وللمغزل صوت خفيف عند شدة دورانه.
والصورة البيانية في هذه العبارات التي يأتي مصدرها من التشبيه والكناية، والتي يجعل من المِغزل كائناً حياً له صوت وجلد وحركة، جميلة على الرغم ما فيها من تصنع في السجع، فأين رخامة الصوت، وسرعة الكر؟
إن أُودِعَ شيئاً ردَّ، وإن كُلِّف سَيْراً جَدَّ، وإن أَجَرَّ حَبْلاً مَدَّ.
عبارات في وصف المِغزل قائمة على حسن التقسيم، وفيها جناس وتوازن جمل وسجع، لكنها ثقيلة على الفهم والذوق.
مُرَهَّفٍ سِنانُه مُذَلَّقٍ أسْنانُه
المُرَهّف: المحدد المرقق، والسِّنان: هو نصل الرمح كنّى به عن أطراف أسنان المشط، والُمذَلَّق: المحدد، من: ذلق السكين: حدده. وقد شبه المشط بإنسان أو حيوان، فأتى بالمشبه وحذف المشبه به على سبيل الاستعارة المكنية.
مُشْتَبِكُ الأنياب في الشِّيبِ والشباب
ومشتبك الأنياب فيها استعارة مكنية. كما أن هنا طباقاً بين الشيب والشباب.








[1] - البستاني، أدباء العرب، ج 2، ص 389
[2] - حسن عباس، نشأة المقامات في الأدب العربي
[3] - المصدر السابق
[4] - البستاني، أدباء العرب، ج 2، ص 389
[5] - فن المقامات، www.asuclubinet.com
[6] - المصدر السابق
[7] - حسن عباس، نشأة المقامات في الأدب العربي
[8] - المصدر السابق
[9] - الهمذاني، مقامات بديع الزمان الهمذاني
[10] - البستاني، أدباء العرب، ج 2، ص 390- 394
[11] - المصدر السابق، ص 389
[12] - مبارك زكي، النثر الفني في القرن الرابع، ص 197
[13] - المصدر السابق، ص 197
[14] - البستاني، أدباء العرب، ج 2، ص 428
[15] - عمر فروخ، تاريخ الأدب العربي، ج 5، ص 144
[16] - نكلس، تاريخ الأدب العربي، ص 123
[17] - الفاخوري، تاريخ الأدب العربي، ص 747
18- محمد عبده، مقامات أبي الفضل بديع الزمان الهمذاني وشرحها، المقامة الملوكية، ص 236-237).
[19] - د.أحلام الزعيم، قراءات في الأدب العباسي في الحركة النثرية، ص 44

[20] - زكي مبارك، النثر الفني في القرن الرابع، ج1، ص 265-269.

[21] - ضيف، شوقي، المقامة، ص 30-32، وقصد: ابن شهيد في كتابه " التوابع والزوابع:، وأبا العلاء المعري في " رسالة الغفران
[22] - طنوس، د.وهيب، في النثر العباسي، منشورات جامعة حلب – كلية الآداب والعلوم الإنسانية، ط 3، 1989-1990، ص 315
[23] - عوض، د.يوسف نور، فن المقامات بين المشرق والمغرب، ص 56.

[24] - عبد الحميد، محمد محيي الدين، شرح مقامات بديع الزمان الهمذاني، ص 95.


------------------------------------------------------------------------

شكرا للقراءة نتمنا لك الاستفادة 
مع تحيــــــــــــــــــــــات 


مدونة تحفة القصر في الأدب العربي

شاركه على جوجل بلس

عن تحفة القصر في الأدب العربي

    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

2 التعليقات:

  1. ممكن تحليل نحوي وبلاغي للمقامة جاحظية وشكرا

    ردحذف
  2. دراسة للمقامة الجاحظية من فضلكم

    ردحذف

مواضيع مختاره