الأدب العربي والدراسات المقارنة
· خصوصية الأدب
العربي وميزاته الـحضارية
· تأثير الأدب العربي في الآداب العالمية
هل يمكننا الحديث عن أدب مقارن ينبع من الأدب
العربيّ؟ وهل يمكننا على الأقل أن نضفي على بعض الجوانب في الأدب
المقارن خصوصية لأنها مما يهمنا ويؤكد دورنا الحضاري؟ ينبغي أولاً أن نشير إلى ضرورة أن
يكون لدينا باحثون يجيدون الاطلاع على الأدبين: العربيّ والأدب الآخر وبلغته
الأصلية، وإذا ما نشأ لدينا عدد من الباحثين في مجال الأدب المقارن وتوفرت دراسات
مقارنة تحمل طابعنا الخاص فإن ذلك يمكن أن يكون نواة للمفهوم الذي نريده.
ولعل شعوباً أخرى غير الغرب الأوروبي
انتبهت إلى تخصص الأدب المقارن وسعت الى ما نسعى إليه فبدأت برامج دراسية جديدة في
الأدب المقارن، هذه الدراسات لا تركز على أية فكرة كونية أو عالمية، ولكن على ذلك الجانب
من الدراسة الأدبية الذي حاول المقارنون في الغرب إنكاره ألا وهو: خصوصية الآداب القومية، انطلاقا
من أهمية الأدب المقارن في تأكيد الهوية الثقافية القومية، دون وجود إحساس أنّ
هناك تناقضاً بين الأدب القومي والأدب المقارن، ومن هنا يُعدّ الأدب المقارن منفذاً يقوي
الأواصر الثقافية بين الشعوب دون ان تضحي بنكهته المحلية بل بالعكس من ذلك
تماماً اذ تكون المحلية لوناً خاصاً يمنح الأدب القومي كما قد يسميه بعض الباحثين
فرادة وخصوصية لاسيما ان مجال البحث في الأدب المقارن هو مجال فسيح جداً يحاور آفاق
الثقافات الأخرى التي من شأنها أن تثري الأدب القومي وأن تفيد من
عطائه.
وبالنسبة لتأثير الأدب العربي على هوية
الغرب الثقافية فإنه يتجلى في دراسات الأدب المقارن التي تدرس مواطن التلاقي بين الآداب
المختلفة ومدى التأثير والتأثر فيها من حيث الأصول والفروع الفنية والتقنية، وكذلك
بواسطة دراسات المستشرقين، وإن على الإنسان الواعي إدراك أن الأدب هو نتاج الفكر والإبداع
الإنساني، وهو ليس حكراً على فئة معينة تملك حقوق استغلاله. ومن ثم فإن إمكانيات النقل والتأثير والتأثر بين الآداب
الخاصة بأي شعب من الشعوب متاحة، فهي لا تنكر أصالة الأدب القومي بل تنمي إمكانياته للتفاعل
مع الآخر.
والأدب العربي لا يُنكر التأثر بالأدب
الغربي في جوانب عدة كان له فيها الريادة والسبق مثال القصة
القصيرة والرواية الحديثة والمسرح؛ فهذه جوانب لم يعرفها العرب إلا عن
طريق الاتصال بالغرب.
لذا فإن التأثر سواء الإيجابي أو السلبي ـ بأي أدب من
قبل وأي شعب ـ يتوقف على قدراته على التفاعل الناضج للحفاظ على
الأصالة القومية، وليس هذا مدعاة للانكسار بل الإنصاف بحق كلّ
شعب في الاعتراف بفضله وريادته في أي مجال.
لقد انتشر الإسلام في شبه الجزيرة العربية ومنه
إلى العالم أجمع، ثمّ أصبح يشغل المساحة من المحيط الهندي إلى المحيط الأطلنطي
جغرافيًا وتأريخيًا، وكانت الحضارة الإسلامية قد تفاعلت مع هذا المحيط الإنساني
الشاسع، فقد استمر حكم المسلمين منذ القرن العاشر الميلادي ولمدة تزيد
عن ثمانية قرون بعد ذلك أثرت الحياة الأندلسية في الحياة الأوروبية في فروع
الحضارة الإنسانية حتى صارت الأندلس قبلة للعلم وللمتعلمين من كل أنحاء أوروبا ومن
الأندلس وجنوب أسبانيا، وانتقل هذا التفاعل الإنساني إلى مجتمعات أوروبا كلها، فقد
استمر حكم المسلمين في صقلية مدة قرنين، وصارت دول مثل فرنسا وإيطاليا مجتمعاً
متمدنا على غرار الحضارة والثقافة الإسلامية. وفي الشرق الإسلامي انتقلت الحضارة منه إلى أوروبا عبر
تركيا الإسلامية، ومن مصر والشام كانت للحملات الصليبية أثر كبير في جعل الحضارة
الإسلامية رافداً رئيساً مؤثراً في الحضارة الغربية بما حملوه معهم
من فنون وآداب الشرق.
وقد تلقت أوربا آثار الثقافة العربية
الإسلامية بوسائل وطرائق كثيرة ومن أهمها وأعظمها أثرًا:
ـ طريق الأندلس: إذ أقام العرب هناك
جامعات زاهرة قصدها طلاب العلم من أوربا، ونشر هؤلاء الطلاب في بلادهم ما تعلموه
من العرب، كما انتفع الأوربيون بدور الكتب الكثيرة التي كانت منتشرة في
أسبانيا، مما ساعد على إحياء العلوم في أوربا فيما بعد.
ـ طريق صقلية: ظل المسلمون في هذه
البلاد زهاء 130 سنة، فأصبحت المركز الثاني لنشر الثقافة الإسلامية في أوربا.
ـ طريق الشرق: كانت الحروب الصليبية (1099-1291م)
وزيارة بيت المقدس مدعاة لاختلاط الأوربيين بالعرب فنقلوا عنهم الكثير من علومهم ومعارفهم
وفنونهم وصناعاتهم، كما حصلوا على كثير من الكتب العربية، فساعد ذلك على ظهور روح
البحث، ودراسة العلوم والآداب والفنون.
وقد أكد علماء الغرب المنصفون أن
الأوربيين تناولوا مشعل العلم من أيدى المسلمين حين اتصلوا بهم واطلعوا على حضارتهم ،
وبلغوا به بعد ذلك ما بلغوه من هذا التقدم العلمي العظيم الذي يعيشون فيه اليوم،
ولولا هذا الاطلاع وهذا الاحتكاك لظلت أوربا ـ ربما لقرون
عديدة أخرى ـ تعيش في الظلام والجهالة التي رانت عليها في العصور الوسطى.
وقد أجمل المؤرخ الفرنسي جوستاف
لوبون في كتابه: (حضارة العرب) تأثير حضارة الإسلام في الغرب وأرجع فضل حضارة
أوربا الغربية إليها وقال: إن تأثير هذه الحضارة بتعاليمها
العلمية والأدبية والأخلاقية عظيم ولا يتأتى للمرء معرفة التأثير العظيم الذي أثره
العرب في الغرب إلا إذا تصور حالة أوربا في الزمن الذي دخلت فيه الحضارة. وأضاف
لوبون: بأن عهد الجهالة قد طال في أوربا العصور الوسطى، وأن بعض العقول المستنيرة فيها
لما شعرت بالحاجة إلى نفض الجهالة عنها، طرقت أبواب العرب يستهدونهم ما يحتاجون
إليه لأنهم كانوا وحدهم سادة العلم في ذلك العهد .
ويقرر لوبون أن العلم دخل أوربا بوساطة
الأندلس وصقلية وإيطاليا، وأنه في سنة 1120م أنشئت مدرسة للترجمة في طليلة
بالأندلس، وأن هذه المدرسة أخذت تترجم إلى اللاتينية أشهر مؤلفات المسلمين ، ولم
يقتصر هذا النقل على كتب الرازي وابن سينا وابن رشد فحسب بل نقلت إليها
كتب اليونان التي كان العرب قد نقلوها إلى لسانهم ، ويضيف لوبون أن عدد ما تُرجم من
كتب العرب إلى اللاتينية يزيد على ثلاثمائة كتاب، ويؤكد لوبون فضل العرب على الغرب في
حفظ تراث اليونان القديم بقوله: فإلى العرب، وإلى العرب وحدهم، لا إلى رهبان القرون
الوسطى ممن كانوا يجهلون حتى وجود اللغة اليونانية، يرجع الفضل في معرفة علوم
الأقدمين، والعالم مدين لهم على وجه الدهر لإنقاذهم هذا الكنز الثمين. وأن جامعات
الغرب لم تعرف لها ـ مدة خمسة قرون ـ موردًا علميًا سوى مؤلفاتهم وأنهم هم الذين
مدنوا أوربا مادة وعقلاً وأخلاقًا، وأن التأريخ لم يعرف أمة أنتجت ما أنتجوه
في وقت قصير، وأنه لم يفوقهم قوم في الإبداع الفني.
وأكد لوبون أثر الاسلام وأثر حضارته
في كل بلد استظلت برايته قائلاً: كان تأثير العرب في عامة الأقطار التي فتحوها
عظيمًا جدًا في الحضارة، ولعل فرنسا كانت أقل حظاً في ذلك، فقد رأينا البلاد تتبدل
صورتها حينما خفق علم الرسول الذي أظلها بأسرع ما يمكن، ازدهرت فيها العلوم
والفنون والآداب والصناعة والزراعة أي ازدهار. وأشاد لوبون بفضل العرب في نشر
العلوم وفتح الجامعات في البلاد التي استظلت برايتهم إذ قال: ولم يقتصر العرب على
ترقية العلوم بما اكتشفوه، فالعرب قد نشروها، كذلك بما أقاموا من الجامعات وما
ألفوا من الكتب، فكان لهم الأثر البالغ في أوربا من هذه الناحية، ولقد كان العرب
أساتذة للأمم المسيحية عدة قرون، وأننا لم نطلع على علوم القدماء والرومان إلا بفضل
العرب، وأن التعليم في جامعاتنا لم يستغن عما نقل إلى لغاتنا من مؤلفات العرب.
ويقول الفيلسوف الفرنسي ارينيه
جينو(الذي أسلم وسمّى نفسه عبد الواحد يحيى: والأثر الواضح الذى يثبت لنا انتقال
المؤثرات الثقافية من المسلمين إلى أوربا هو تلك الكلمات عربية الأصل التي تستعمل
لنقل الأفكار وإظهار ما تكنه النفوس فإن من السهل علينا أن نستنتج انتقال تلك
الأفكار والآراء الإسلامية نفسها، وفي الحق أن تأثير الحضارة الإسلامية قد تناول
إلى درجة بعيدة وبشكل محسوس كل العلوم والفنون والفلسفة وغير ذلك، وقد كانت أسبانيا
مركز الوسط المهم الذي انتشرت منه تلك الحضارة. فالكيمياء احتفظت دائما باسمها
العربي وعلم الفلك أكثر اصطلاحاته الخاصة ما تزال محتفظة في كل اللغات الأوربية
بأصلها العربي، كما أن كثيرا من النجوم ما يزال علماء الفلك في كل الأمم يطلقون
عليها أسماء عربية. ومن السهل جدًا أن نوضح أن كثيرًا من المعارف الجغرافية عرفت
من الرحالة العرب الذين جابوا كثيرًا من الأقطار وحملوا معهم معلومات جمة. وأننا
لنجد أثر الثقافة الإسلامية في الرياضيات أكثر وضوحًا، وهذا علم الحيوان الذي يسهل
علينا من اسمه العربي أن نعرف طريق انتقاله إلى الغرب، كما أن الأرقام
الحسابية التي يستعملها الأوربيون هي الأرقام نفسها التي استعملها العرب، وأن
كثيرًا من المعاني التي جادت بها قرائح الكتاب والشعراء المسلمين أخذت واستعملت في
الأدب الغربي، كما نلاحظ أن أثر الثقافة الإسلامية واضح كل الوضوح وبصفة خاصة في فن
البناء وذلك في العصور الوسطى.
ولم تكن هناك وسيلة لتعرف أوربا
الفلسفة اليونانية الا عن طريق الثقافة الإسلامية لأن التراجم اللاتينية لافلاطون
وأرسطو لم تنقل أو تترجم من الأصل اليوناني مباشرة وإنما أخذت من التراجم العربية
وأضيف إليها ما كتبه المعاصرون المسلمون مثل ابن رشد وابن سينا في الفلسفة الإسلامية .
ـ الأدب :
قامت صلة وثيقة بين طائفة من عباقرة
الشعر في أوربا بأسرها، خلال القرن الرابع عشر الميلادي وما بعده، وموضوعات
الأدب العربي والثقافة الإسلامية على وجه لا يقبل الشكّ. ونخص بالذكر من هؤلاء
بوكاشيو وبترارك ودانتي وهم من أعلام النهضة الايطالية، وشسر الكاتب الانجليزي
الشهير ، وسرفانيتس الأسباني ، وإلى هؤلاء يرجع الأثر والتأثير البارز في
قيام النهضة الأوربية في أوربا.
ولم تنقطع الصلة بين الأدب الإسلامي والعربي
والآداب الأوربية الحديثة حتى اليوم. ويكفي لبيان الأثر الذي أبقاه الأدب الإسلامي
في آداب الأوربيين أننا لا نجد أديبا واحدا من نوابغ الأدباء عندهم قد خلا شعره أو
نثره من الإشارة إلى بطل إسلامي، أو نادرة إسلامية. ومن هؤلاء : شكسبير ، أديسون،
بايرون ، سودى ، كولردج ،
شيلي من أدباء الإنجليز، ومن أدباء الألمان: جيته ، هرور، وليسنج، ومن أدباء فرنسا:
فولتير، لافونتين . وقد صرح لافونتين باقتدائه في أساطيره التي ألفها بكتاب (كليلة ودمنة)
الذي عرفه الأوربيون عن طريق المسلمين
.
ـ الفلسفة :
كان أثر المسلمين في التفكير الفلسفي
لأوربا عظيمًا، وكانت أسبانيا هي مركز تأثير الفلسفة الإسلامية على الفكر
الأوربي الغربي لأن أوربا لم تعرف فلاسفة الشرق إلا عن طريق الأندلس إذ أشرف
ريموند أسقف طليطلة على ترجمة أعمال الفارابي وابن سينا والغزالي وغيرهم، والعرب هم
الذين حفظوا فلسفة كبار فلاسفة اليونان وعلى ما سطروه في كتبهم، لا سيما أرسطو
وأوصلوا هذا التراث إلى الغرب، فاتصال العقلية الأوربية الغربية بالفكر العربي هو
الذي دفعها لدراسة الفلسفية اليونانية، وقد قرر روجر بيكون أن معظم فلسفة أرسطو ظلت
عديمة الأثر في الغرب لضياع المحفوظات التي حوت هذه الفلسفة أو لندرتها
وصعوبة تذوقها حتى ظهر فلاسفة المسلمين الذين قاموا بنقل فلسفة أرسطو وشرحها
وعرضها على الناس عرضًا شاملاً، ومن فلاسفة الأندلس الذين كان لهم أثر بالغ في
الفكر الأوربي: ابن باجه ، وابن الطفيل، وابن رشد .
ـ الطب :
جاء الإسلام فقضى على الكهانة وفتح
الباب للطب الطبيعي على مصراعيه لأنه أبطل المداواة بالسحر والشعوذة ولم يحدث في
مكان الكهانة طبقة جديـدة تتولى العلاج باسم الدين، بل سمح النبي - عليه الصلاة
والسلام - باستشارة الأطباء ولو كانوا من غير المسلمين فلما مرض سعد بن أبي وقاص في
حجة الوداع عاده النبي وقال له: إني لأرجو أن يشفيك الله حتى يضر بك قوم وينتفع بك
آخرون، ثم قال للحارث بن كلدة: عالج سعدًا مما به والحارث على غير دين الإسلام.
وذكر القرآن الكريم لقمان الحكيم ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ
اشْكُرْ لِلّه﴾ ومنها التطبيب أو هي الطب قبل سائر ضروب الحكمة، فجعل الإسلام
هذه الصناعة نعمة يشكرها من أسبغها الله عليه، واتخذها وظيفة معترفاً بها .
وقد كان الطب العربي الإسلامي يستهدف
حفظ الصحة على الأصحاء، وهذا هو الجانب الوقائي الذي نسميه الآن بعلم الصحة الوقائي،
وقد توصّلوا إلى الوقاية من الأمراض بدراسة الجسم ووظائف أعضائه، وحاولوا الكشف عن أسباب
الأمراض وطرائق انتشارها، لمعرفة أساليب الوقاية منها، كما يستهدف الطب الإسلامي
ردّ الصحة إلى المرضى، وهذا هو شفاء الأمراض .
وكان هذا وغيره في الإسلام في وقت
حرمت فيه الكنيسة في أوربا صناعة الطب، لأن المرض عقاب من الله لا يجب علاجه أو
منعه ورده، وظل الطب محرمًا في أوربا حتى عصر الإيمان في مستهل القرن الثاني عشر
أبان الحضارة الأندلسية
.
وقد عرفت في طب العرب موسوعات طبية
إسلامية ترجمت كلها إِلى اللاتينية اطلع عليها أطباء أوربا ونهلوا من معينها حتى
مطلع العصور الحديثة، كان في مقدمتها كتاب القانون لابن سينا في القرن الثاني عشر.
وقد جمع خلاصة الطب عند العرب واليونان والسريان والأقباط ، وضم ملاحظات جديدة
عن الالتهاب الرئوي وعدوى السل. مع وصف لسبعمائة وستين دواء . وقد ترجمه جيرار
الكريموني إلى اللاتينية وطبع عشرات المرات
.
شكرا للقراءة نتمنا لك الاستفادة
مع تحيــــــــــــــــــــــات
مدونة تحفة القصر في الأدب العربي
0 التعليقات:
إرسال تعليق