السيرة الذاتية وحقائقها في التاريخ





السيرة الذاتية وحقائقها في التاريخ

  إعداد : محمد يوسف باحث في جامعة جواهر لال نهرو -  نيو دهلي  - الهند                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                            
   مبدأ السيرة الذاتية
    إن السيرة الذاتية هي التي يتحدث فيها الكاتب بقلمه عن أحواله الذاتية، فيسجل حوادثه وأخباره، ويسرد أعماله وآثاره، ويذكر أيام طفولته وشبابه وكهولته، وما جرى له فيها من أحداث الفرح والترح، تعظم وتضئول تبعا لأهميتها، وقد تسجل فيها الوقائع و الأحداث يوما فيوما أو بصورة متقطعة بعد أن تجمع عناصرها من مصادر متعددة، ويعرف قاموس أوكسفورد السيرة الذاتية كما يلي: "كتابة الشخص لتاريخه وقصة حياته بقلمه" وقد ورد في "معجم مصطلحات الأدب" أن السيرة الذاتية "سرد متواصل يكتبه شخص ما عن حياته الماضية".
    وإن للسيرة  الذاتية نكهة خاصة، لأن الكاتب يتحدث فيها عن نفسه، فنحس بأن الكلفة قد رفعت بيننا وبينه كما يقول الدكتور إحسان عباس في كتابه: "وكاتب السيرة قريب إلى قلوبنا، لأنه إنما كتب تلك السيرة من أجل أن يوجد رابطة مابيننا وبينه، وأن يحدثنا عن دخائل نفسه وتجارب حياته حديثا يلقى منا آذانا واعية، لأنه يثير فينا رغبة في الكشف عن عالم نجهله، ويوقفنا من صاحبه موقف الأمين على أسراره وخباياه، وهذا شيء يبعث فينا الرضي".(1) وإن السيرة الذاتية تعتبر إحدى الجوانب الهامة النابضة بالحياة السردية للذات المحورية وإحدى التجارب الحية المضيئة في حياة أصحابها، خاصة إذا كانت الذات الكاتبة هي صاحبة القلم التي سطرت هذه السيرة ووضعت فيها من نفسها وخاطرها وفكرها وذاكرتها وتاريخها كل مايعطيها تأشيرة مرور إلى الساحة الإبداعية كعمل أدبي له مقوماته ومزاياه الخاصة، حيث تتسم السيرة الذاتية في هذه الحالة بميسم الصدق الفني والتعبير الذاتي النابع من خطوط عريضة لحياة الذات الكاتبة،[1] وما أصدق الدكتور جونسون الأديب الإنجليزي الشهير، حين يقول: "إن حياة الرجل حين يكتبها بقلمه هي أحسن مايكتب عنه".[2]
    إن فن السيرة الذاتية قديم في الأدب العربي وليس من الفنون المستحدثة كما يظن البعض في عصرنا، فكتب بعض القدماء من أعلام الفكر والأدب و العلم عن حياتهم، ومن أهم كتب السيرة الذاتية العربية القديمة "الاعتبار" لأسامة بن منقذ، و"المنقذ من الضلال" للإمام الغزالي، وفي العصر الحديث اتجه كثير من الأدباء إلى كتابة السيرة الذاتية بالأسلوب الحديث و التحليل النفسي الممتع ومنها: "الأيام" للدكتور طه حسين، و "حياتي" للأستاذ أحمد أمين، و "أنا" لعباس محمود العقاد.[3]

متى يكتب الإنسان سيرته الذاتية؟
    إن كل سيرة ذاتية في حد ذاتها هي تجربة ذاتية لكل شخص من الأشخاص فإذا بلغت هذه التجربة دور النضج وأصبحت في نفس كاتبها نوعا من القلق الفني وأصبحت تلح عليه للإفضاء بها للناس دون أي حرج، فإنه لابد أن يكتب سيرته الذاتية. وإن الإنسان الذي يعجز عن أن يرى مرتبته في الحياة بكل الوضوح وليست له نظرة عميقة ونظرة خاصة في تجربة حياته لايناسب له أن يكتب سيرته.[4]

الهدف لكتابة السيرة الذاتية:
    إن الهدف و الغاية التي تحققها كتابة السيرة الذاتية من صاحبها هي تخفيف العبء عن عاتقه بنقل التجربة الذاتية إلى الآخرين، ودعوتهم إلى المشاركة فيها، فهي توفر فرصة للفنان يريح نفسه بالإعتراف ولإيضاح موقفه من المجتمع ويعني ذلك أنه يكتب ليستفيد بالتنفيس عن مكنونات قلبه وإطلاق نفسه من عقالها، وليحصل على المتعة الفنية المستحدثة عن الصدق و القدرة على التأثير، ويكتب ليفيد الناس بتجاربه الذاتية ومشاركته لهم:
1.  فإذا كان يحس بالاضطهاد من المجتمع، تخفف من هذا الشعور بالحديث عنه.
2.  وإذا أحس بوقع ذنوبه وآثامه، أراح ضميره بالإعتراف بها، وقمع نفسه بالإعلان عن سيئاتها، ووقف منها موقف المتهم والقاضي معا.
3.  إذا مر بصراع نفسي أو روحي أو فكري وخرج منه سالما رسم صورة لذلك الصراع وانهى قصته بالهدوء الذي يعقب العاصفة، والاستبشار الذي يأتي بعد اليأس.
4.  إذا فشل واخفق أو هزم أو اتهم، فهو يرضى ضميره وهو يظهر الاعتذار والتعليل والتبرير لماحصل. فالكشف عن دخائل نفسه هو الطريق الصحيح ليقدره الناس من حوله وظهور صدقه.[5]
وإن كل هذه العوامل والأسباب تكون وراء الغاية والهدف من كتابة السيرة الذاتية.

الشروط لكتابة السيرة الذاتية:
    إن السيرة الذاتية تكتب مرة واحدة فقط لاتكتبها مرارا، لأن نص السيرة الذاتية نصا مهما في حياته الأدبية و الاجتماعية عند صاحبه الذي كتبه وكان نفسه موضوعا له في ذلك الوقت، ولأن السيرة الذاتية تكتب بعد الخمسين عاما من عمره عادة، وأن جميع التدريبات في السيرة الذاتية يجب أن تكون فيها التعميم، ومن الناحية الهيكلية، وعمل التذكير يجب أن يكون واضحا تماما في نتاج التذكير العملية،[6] وأن كتابة السيرة هي كتابة غير عادية بالنسبة إلى الذي يكتبها والذي يقرؤها، وعلى هذا النحو تخضع لشروط خاصة تتصل بفعل الكتابة لا بالكتابة ذاتها، وإذا قبلنا أن السيرة الذاتية يمكن أن تمثل جنسا أدبيا فليس حق لنا أن نسأل القصاص أو الروائي أو الشاعر أو غيرهم من المبدعين أين ومتى ولماذا كتب نصه ولكن كاتب الترجمة الشخصية محكوم بأسئلة الزمان والمكان والموضوع: متى وأين ولماذا؟ إن السيرة الذاتية ليست هي من تقاليد الثقافة العربية، ولكن العرب مع تطور نهضتهم الأدبية استوعبوا أجناسا أدبية لم تكن راسخة التقاليد في الثقافة العربية عموما ولذلك سيكون وضع السيرة الذاتية أشبه بوضع الرواية وفن المسرح والقصة القصيرة وغيرها من الفنون الأدبية الأخرى التي جاءت إلى ثقافة العربية نتيجة علاقتها المباشرة وغير المباشرة بالحضارة الغربية عموما، فالدكتور طه حسين الذي ألف "الأيام" التي تعتبر حتى الآن النص التأسيسي للسيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث هي نتاج هذا اللقاء الفاعل بالحضارة الغربية عموما والثقافة الأوربية بصفة خاصة، ونشأت السيرة الذاتية مع كتاب "الأيام" نوعا أدبيا استوفى شروطه الفنية.[7]
    ثمة إذن شروط عامة لفن السيرة الذاتية ومنها تحديدها أن تكون إبداعية واسعة ويعتبر أن هذا الفن الأدبي الحديث لايصح إلا بها ويعرضونها على أساس أنها شروط إنشائية علمية لاتميز بين الثقافات المختلفة ولا تفصل بين التجارب الفردية وهي شروط تتصل بالزمان والمكان والغايات والأسباب.
    وإن كاتب السيرة الذاتية ليس كاتبا عاديا ـ كما ذكرنا آنفاـ أن الذي يكتبها هو من بلغ شوطا كبيرا من حياته الأدبية أو الفكرية أو السياسية أو المهنية العامة، ولكن هذا يعتبر في السيرةالذاتية في معناها العام، فلا أحد يشك في أن طه حسين عندما ألف كتابه "الأيام" فكان شخصية ثقافية كبيرة بل كان شخصية إشكالية بسبب آرائه الجريئة في الأدب ولاسيما عندما نشر كتابه "في الشعر الجاهلي" وكذلك عباس محمود العقاد وإبراهيم عبدالقادر المازني كلاهما كان شاعرا وكلاهما كان ناقدا أدبيا ولكنهما كانا على رأس "مدرسة أدبية نقدية" (مدرسة الديوان) كاتبين مجادلين حادين في جدالهما خاضا معا في معارك أدبية، وأحمد أمين جاء من القضاء إلى الأدب فقد لفت أنظار القراء بإسلامياته وقد أضحت هذه المؤلفات مرجعا أساسيا في تطور الثقافة العربية.[8] إن هذه الأمثلة التي قدمناها وهي من نصوص مدونة للسيرة الذاتية العربية تؤكد أن كاتب السيرة الذاتية هو أقرب إلى الشخصيات العامة في أغلب الأحيان عموما فليس من اللازم أن يكون كاتب السيرة الذاتية من ذوي الشهرة دائما.

العوامل لكتابة السيرة الذاتية:
    إن العوامل التي تدعو الكتاب والأدباء إلى كتابة سيرهم الشخصية عديدة فهي تعتبر عموما قولا قاطعا يتعلق بمسيرة حياة كاملة أو ردا غير مباشر على آراء جدالية تعرض لها الكاتب في حياته أو موقفا تجاه قضايا تخص الوجود أو المجتمع أو السياسة وإذا كان الكاتب، صاحب السيرة الشخصية يشعر بوقع الزمن الذي يهدده ويعرّض مشروعه للتلاشي في مرحلة ما من مراحل الحياة، فإنه قد يجد في تاليف ترجمته الشخصية الفضاء الأوسع لقطع موافقه تجاه حياته والمناخ الثقافي والاجتماعي الذي يعيش فيه، وتستدعي السيرة الشخصية لكاتبها اللذة الفنية الفريدة في فعل الكتابة نفسه، وقد يجد الكتاب والمبدعون عندما ينغمون في فعل الكتابة ضربا من اللذة الذاتية ولكن هذه اللذة الفنية تبلغ أقصاها في كتابة السيرة الشخصية، ذلك لأن كاتب الترجمة الشخصية يتلذذ باستحضار الذكريات السعيدة التي عاشها.[9] ولقد عبّر كتاب السير الذاتية في الأدب العربي عن هذه اللذة الفنية الفريدة التي عاشوها وهم يكتبون سيرهم الذاتية، فيقول محمد شكري في بداية سيرته الذاتية المعنونة بـ"الخبز الحافي" ها أنا أعود لأجوس، كالسائر نائما، عبر الأزفة والذكريات عبرما خططته عن حياتي "الماضية ـ الحاضرة" كلمات واستيهامات وندوب لايلئمها القول، أين عمري من هذا النسيج الكلامي؟ لكن عبير الأماسي والليالي المكتظة بالتوجس واندفاع المغامرة يتسلل إلى داخلتي ليعيد رماد الجمرات غلالة شفافة أسيرة.[10] وكذلك ورد في إحدى المجلات الثقافية عن محمد شكري هذا التصريح: "لماذا أتحدث عن جمال الآخر وأنا جميل، أنا نرسيسي أنا أجمل من التي لاتحبني أنا قوي وشاب "وبعد ذلك ينهض محمد شكري ويتوجه نحو طاولة مجاورة ويضع عليها كرسيا، ويقفز فوق الكرسي بطريقة بهلوانية ثم يعود إلى مكانه ويقول: "لماذا أتكلم عن جمال أملكه أنا نفسي، عندما نحب الآخرين، نحب أنفسنا في الآخرين، أنا الذي يمنح الجمال للآخرين، ولن أمنحه بعد اليوم، لأن في ذلك الكثير من الخبث والمراوغة، وأنا أحب نفسي فقط أنا الوجه والمرآة في آن".[11]
    وهكذا تكتسب السيرة الذاتية قيمتها من وعي الكاتب نفسه بأهميتها، فالحياة التي ترويها والتي عاشها صاحبها يجب أن تكون جديرة بأن تروى، فما من حياة شخصية تروي عاشها كاتبها عبثا وعلى هذا النحو يعبر الإنسان عن معنى وجوده فيقول جورج ماي(Georges May):  إن السيرة الذاتية "تنشأ من رغبة الكاتب في استعادة مسار حياته ليدركه وليهنا باله بما ينتهي إليه من نتائج تطمئنه إلى أنه رغم الحوادث والتناقض والفشل والنكوص على الأعقاب والتردد والتنكّر، لايزال كما كان وأن الهوية الأثيرة للأنا لم يمسسها سوء".[12]
هذه هي العوامل و الدوافع الذاتية وراء كتابة السير والتراجم فهي بمثابة دوافع توفر الأساس والبنيان لكاتب السيرة الذاتية، فالإحساس الحاد بالزمن واللذة الفنية هي كلها عوامل وأسباب قد تجتمع معا وقد تغيب بعضها ويحضر بعضها الآخر.


العناصر الفنية للسيرة الذاتية:
    إن العناصر الفنية التي تتميز بها السيرة الذاتية الحديثة هي في الحقيقة العناصر الأدبية في أكثر الأحيان وأن أكثرما كتبه العرب عن أنفسهم صاغوه في أسلوب واضح سهل قائم على الإيجاز المحكم، ويتصف بسلاسة السرد والبيان القصصي، والعبارة العذبة وحسن العرض، والقدرة على إعادة الماضي وبعث الحياة و الحركة والحرارة في تصوير الأحداث والتجارب والشخصيات وقد امتاز كثير من هذه السير الذاتية، الوضوح والصدق والتجرد في كثير من النظرات و الآراء و التجارب المتصلة بالذات وبالشخصيات، وبعضها صور أصحابها ماعانوه من صراع داخلي وخارجي، تصويرا دافقا بالحيوية والازدياد والنمو، ويكشف عن مدى ما أصابته شخصية أحدهم من تحول وتغير وتطور. وعني كثير من هذه التراجم الذاتية بإثبات عنصري الزمان و المكان والكشف عن أسماء الشخصيات والأماكن وتعزيز الأحداث بإثبات التاريخ وبعض الذرائع والمدونات مع محافظة الاسترسال وعلى السرد الأدبي الجالب للمتعة المرادة من العمل الأدبي مما جعل السيرة الذاتية تحظى بعناية كبيرة من قبيل الأدباء و الكتاب ويقابلها الجمهور بإقبال شديد، لأنها أرضت حاجة العرب إذ نقلت لهم الواقع الملموس في صورة قصصية سهلة عذبة وكانت تقوم إلى جانب السيرة الغيرية، بهذا الدور الأدبي على مدى أجيال طويلة.[13]
    وإن أقرب السير الذاتية إلى السيرة الذاتية الأدبية بمعناها الحديث هي تلك الكتب التي كتبها الأمير عبد الله وأسامة بن منقذ وابن الهيثم والرازي وابن خلدون، لأنها توافر فيها أكبر قدر من المتعة، إلى جانب تصوير كل منها مع مهارة السرد الأدبي الذي يعتمد على كثير من عناصر الفن، وعلى الدقة الصراحة والعذوبة والسهولة ويعتمد أيضا على قدر من الترابط في أجزاء كل سيرة ذاتية، إن كلها من الأسباب و العوامل التي تحقق المتعة الأدبية الفنية وتثير التعاطف الوجداني بين كاتب السيرة الذاتية، ويدعوه إلى المشاركة مختلف من تجاربه وانفعالاته وخواطره، ويذهب أدباء السيرة الذاتية إلى أن السيرة تصلح للتدريس وذلك للأسباب التالية:
1.  إن الإنسان الفرد أبسط كموضوع للدراسة من القبيلة أو المدينة، أو الأمة التي ينتمي إليها.
2. إن للأطفال ميلا طبيعيا مفيدا نحو الشخصيات، فهم يعيشون مع أبطالهم ويقاسمونهم، وبذلك تتسع دائرة خبراتهم بصورة لاتكاد تعقل في حالة دراسة الجماعات.
3. إن تعرف الشخصيات العظيمة النبيلة في التاريخ يخلق رغبة في التشبه بهم ويبعث على بغض سلوك الشخصيات الشريرة.
4. إن من الممكن أن نجعل الأفراد يمثلون الجماعات، بحيث تكون دراسة لخصائص  الأفراد وخبراتهم.[14]

أسلوب كتابة السيرة الذاتية:
    إن السيرة الذاتية لاتكتب في أسلوب واحد ولذا نلاحظ ثلاثة أساليب لرسم السيرة الذاتية وهي كما يلي:
 1 ـ الشكل التقليدي السردي: القائم على سرد الأحداث و الوقائع مع الاهتمام من قبل الكاتب بتسجيل وإظهار التطور النفسي والعقلي للشخصية موضوع السيرة، كما يهتم بالتحليل و التأمل والإيضاح وا لتفسير، وإذا كان كاتب السيرة هو صاحبها، يعمد إلى التعبير عن أفكاره ويوضح عن ذاته ويفصح دخائلها ودوافعها، ويكتب تحوله وتطوره في مختلف مراحل حياته الذاتية. وهو لايعنيه أن يكتب سيرته في شكل فني، إنما جمع سيرته في شكل فصول محاولا إيجاد الوحدة والتماسك، بينهما بقدر الإمكان، عن طريق التطور الزمني في ذكر مراحل حياته منذ حياته الابتدائية، ماضيا في تعريض مراحل عمره المتعاقبة حتى يطلعنا على أطوار شخصية في تدرج وترابط وازدياد ونمو، ويغلب على أسلوبه السرد والتقرير والبعد عن التصوير.
2 ـ الشكل التصويري: يجمع فيه الكاتب بين الطريقة السردية السابقة وبين طريقة الرواية الفنية القائمة على التصوير للتجارب والأماكن و المواقف والشخصيات تصويرأ يعتمد على الفن الروائي مثل إجراء الحوار الأدبي والاستعانة باللفظة الأدبية في الحوار، وهذا الشكل مزيج من أسلوب المقالة حين يظهر عن حالته الفكرية والنفسية ومن أسلوب الرواية في التصوير للحقيقة، وبرع في هذا الأسلوب الكتاب الذين دربوا ومارسوا العمل الروائي قبل أن يكتبوا سيرهم الذاتية.
3 ـ الشكل الروائي: إنه الشكل الأرقى في تاليف السيرة الذاتية حيث تتسع مساحة الإبداع ويسمح للمخيلة بأن تلعب لعبتها الفنية، ويقدم عليه الروائي المتمرس عندما يريد كتابة سيرته حيث يصوغ تجاربه ومواقفه في شكل روائي ويتمسك بعناصر الحقيقة فيما يقصه ويتيح له هذا الشكل أن يتواري خلف شخصيته بطل الرواية، ليصور الأحداث والمواقف التي مربها، في حرية من الإحراج.
    إن هذا الشكل الروائي في كتابة التراجم أكثر تواترا في الأدب العربي الحديث بين الأشكال الأخرى، ثم إن أشهر نصوصها وأرقاها إبداعا هي النصوص التي كتبت بأسلوب الشكل الروائي ابتداء من النص التأسيسي الأول "الأيام" للدكتور طه حسين وكذلك يعد في هذه الشكل كتاب "الخبز الحافي" لمحمد شكري، و"أوراقي.. حياتي" لنوال السعداوي وغيرهم من الكتاب.[15]

صلة السيرة الذاتية بالتاريخ
    إن صلة السيرة الذاتية بالتاريخ صلة قوية، ذلك لأنهما يشتركان في تسجيل الوقائع والأحداث و المواقف في تصوير مختلف البيئات والمآثر، والكشف عن الصور المادية والنفسية وإذا كانت السيرة الذاتية تنبع من صلب الأدب بخلاف التاريخ بالطبع العلمي فهذا لايعني أن الحس التاريخي منعدم في كتابة التاريخ الخاص الفردي، بل إنه على العكس حاضر بأبعاده الثلاثة المتمثلة في الماضي، والحاضر، والمستقبل، والظاهر لأول وهلة أن الترجمة الشخصية تتخذ موقعا وسطا بين الأدب والتاريخ، وإذا ننظر أكثر في طبيعة هذا الجنس الأدبي نصل إلى تعبير دقيق عميق من حيث حمولته الدلالية، وهو أن هذا اللون من التعبير تتجاذبه قوتان: سلطة الأدب وقوة التاريخ، لأن الكاتب يصوغ تاريخه الخاص صياغة أدبية، وبسبب واقع التجاوب بين الأدب و التاريخ تتميز السيرة الذاتية عن باقي جسد التاريخ العام مع أن الأصل في التاريخ الإنساني هو مجموع التواريخ الخاصة، سواء الفردية منها أم الجماعية، وأن الترجمة الذاتية لاتسقط من فضائها، وإن كان الزمن في الترجمة الذاتية الإسلامية الحديثة يرتبط بالعودة إلى مرحلة أو عدة مراحل وهي في ذات الوقت عودة إلى فضاءات وتاريخ يلتقي فيه ويتكامل التاريخ الفردي و الجماعي وأنها عودة تجد في الكتابة حاضرها وفي الذاكرة ماضيها، ولاريب أن المسافة بين الكتابة والذاكرة أو بين الحاضر و الماضي تاريخية وسردية في آن واحد.[16]
    وما من شك في أن للحس التاريخي دورا كبيرا وتأثيرا مباشرا في إدراج نص السيرة الذاتية و عرضها، وفي تحديد البناء العام لكل تاريخ فردي.
    إن السيرة الشخصية أكثر نبضا من التاريخ بالحياة والتجارب الفردية بحكم محورية الذات الفردية في هذا اللون من التعبير من جهة وثانوية الأحداث من جهة ثانية ومن السهل أن نتنبه إلى كون التاريخ أحد وجوه فتنة هذا الجنس الأدبي، إن التاريخ يجري وراء الحقيقة باحثا وممحصا ثم مبددا لأيّ غموض في عديد جوانب الحياة الإنسانية،[17] فالسيرة الذاتية تقتفي أثر الحياة في ذات الإنسان وكانت ولاتزال أكثر احتفالا بالأدب الذاتي من كل ألوان التاريخ حتى أن التاريخ يعبر عن مدى غنى الحياة الداخلية للإنسان وأن السيرة الشخصية هي ملتقى الحق الأدبي والحق التاريخي.
    وهناك عدة أمور تبعد أن السيرة الذاتية من الأدب وتقربها من كتب التاريخ وهي كما يلي:
1. الالتزام في كتابة السيرة الذاتية بالصدق التاريخي ليس بالصدق الفني وأن هذا الالتزام يجعل الكاتب أن يقف عند الحقائق، يعرضها ويرتبها ترتيبا خاصا فيضعف عنصر الخيال الذي كان يمكن أن يجعل من السيرة قصة ممتعة وجذابة.
2. البعد عن سيطرة العاطفة على مايصدره من أحكام فكاتب السيرة الذاتية له ضروري ألايسخر الأحكام وا لوقائع والأحداث لعاطفته، فإن ازدياد العاطفة ينحرف بالسيرة عن وضعها الطبعي.[18]

* * *




(1)   "فن السيرة"  للأستاذ إحسان عباس، ص: 101.
[1]  - A History of Autobiography in antiquity, part one, By Georg. Misch, (Translated in English by E.W. Dickes) Page:7-8.
[2]  - "التراجم والسير" للأستاذ محمد عبدالغني حسن، ص:23.
[3]  - "فن السيرة" للأستاذ إحسان عباس، ص:83.
[4] - المصدر السابق، ص: 105.
[5] - "الترجمة الذاتية في الأدب العربي الحديث" للدكتور يحيى إبراهيم عبد الدايم، ص: 2-16.
[6]  - The Critique of Autobiography, By Marc Eli Blanchard, Page:111-112.
[7] - L Autobiographie, by Georges May, التعريب باسم: (السيرة الذاتية)، بقلم  عبد الله صولة ومحمد القاضي، ص:28.
[8]  - "أوراقي.. حياتي" لنوال السعداوي، ج2، ص: 7.
[9]  - Time in Autobiography, By Burton Pike , Page:326-329.
[10] - "الخبز الحافي" للأستاذ محمد شكري، ص:7.
[11] - المجلة السبع. الصادرة من السعودية العربية، ص: 33.
[12] - L Autobiographie, by Georges May, التعريب باسم: (السيرة الذاتية) ، بقلم عبد الله صولة ومحمد القاضي، ص:63-64.
[13]  -  Some principle of Autobiography, By, William L. Howarth, Page:365-367.
[14] - "فن السيرة" للدكتور إحسان عباس، ص: 83-91.
[15] - "الترجمة الذاتية في الأدب العربي الحديث" للدكتور يحيى إبراهيم عبد الدايم، ص:126-133.
[16] - The Autobiography and Life History, By, Percival M.Symonds, Page:206.
[17]  - The Autobiography in Modern Arab Literature and Culture, By, Thomas Philipp, Page:577-578
[18] - "فن السيرة" للدكتور إحسان عباس، ص:88-103، و"الترجمة الذاتية في الأدب العربي الحديث" ليحيى إبراهيم عبد الحليم، ص:5-26، و The Autobiography and life of History, By Percival M. Symonds, Page:207-209.





شكرا للقراءة نتمنا لك الاستفادة 

مع تحيــــــــــــــــــــــات 


مدونة تحفة القصر في الأدب العربي

شاركه على جوجل بلس

عن تحفة القصر في الأدب العربي

    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق

مواضيع مختاره